إشراقة

 

 

الحياء والندم وقيمتهما في حياة الإنسان

 

 

 

 

 

 

الناس أنواع لاتُحْصَىٰ. وإذا رُحْتَ تدرسهم وتختبر ما هم عليه من الطبائع، وجدتَ كلَّ فرد منهم يختلف عن الآخر، ويكاد لايلتقى غيرَه في أيّ شيء إلاّ التقاءً قليلاً؛ فهذا مُفْرَط الشعور بالمسؤولية، وذاك قليل الشعور بها أو فاقده تماماً، وهذا شديد الحسَّاسيَّة نحو كل عمل في الحياة دقَّ أو جلَّ، وذاك غيرُ مُبالٍ بأيّ شيء في الدنيا مهما عَظْمَ شأنُه وعلا مكانُه.

     وهكذا، فهذا رجلٌ يندم على أيّ تقصير صدر منه نحو أيّ أمر من أمور الحياة، وذاك رجل لايندم أبدًا حتى على الكبائر من الذنوب التي ارتكبها نحو نفسه أو نحو أي فرد في المجتمع؛ لأنه عُجِنَت طينته باللامبالاة المتناهية بالأخطاء والتقصيرات تصدر منه؛ حيث لايعرف للشعور معنى.

     النوعُ المولود من البشر على الشعور بما يصدر منه، يتأذّى في حياته كثيرًا؛ لأنه يظلّ دائمًا شديدَ الشعور بالتقصيرات تصدر منه، وما أكثـرها في حيـاة كل فـرد من الأفـراد؟!. وبالمقـابل النـوعُ المـولود من البشر على اللاشعـور بما يصـدر منـه يعيش الحيـاةَ مـرتاح البـال؛ لأنـه بوصفه هـذا يظنّ أنه مَلَكٌ معصوم من الخطأ والنسيان؛ فلا خَطَأَ يصدر منه ولا ذنبَ قد يرتكبه ولا أذى أصاب به أحداً في حياته منذ بدأ يلعب دوره في الحياة!.

     والندمُ على تقصير صَدَرَ من المرء نحوَ أي إنسان، صفة محمودة للغاية؛ لأنه بهذه الصفة يتمكن من تجنّب الأخطاء والتقصيرات في الآتي من حياته وتصحيح مساره في الحياة؛ فلا يتعرض لمثل ما صَدَرَ منه في الماضي مما سَبَّبَ له الندمَ، واضطرّه إلى الاعتذار. كما أنه يكسب حبَّ الناس وثناءهم؛ لأنهم في الأغلب يحمدون النادمين المعتذرين، ويذمّون من لايندم ولا يعتذر فيما يتعلق بالتقصيرات التي يكون قد ارتكبها نحوهم.

     هناك كثير من الذنوب يَتَجَنَّبُها الإنسان لأنه يولد معجونةً طينتُه على الحياء، كما أنه يتجنّب كثيرًا مما ينافي الحشمةَ والوقارَ ومكارمَ الأخلاق إذا كانت هذه الصفة النبيلة مركوزة في طبيعته. أمّا إذا فاتته فإنه يُتَصَوَّر منه أن يصنع مايشاء مما قد يُوَرِّطه في وحل اللاإنسانية ويسلبه جميعَ معاني الإنسانيّة والمروءة، والاحتشام والنبل، والكرامة والرجولة. وقديمًا قال العرب: «إذا فاتك الحياء فاصنع ما شئتَ» وقال الشاعر الحماسيُّ:                          

فَلاَ وَأَبِيكَ مَا فِي العَيْشِ خَيْرٌ

وَلاَ الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ

يَعِيشُ الْمَرْأُ مَا اسْتَحْيَىٰ بِخَيْرٍ

وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ

     و«الحياءُ» و«الندمُ» شيء واحد في المعني والنتائج، والفرقُ بينهما أن الأوّل يعني أن يحتشم المرأ ابتداءً، فيجتنب كلَّ ما يخدش المروءةَ والوقارَ، والشرفَ والرجولةَ. والثاني هو ما يعتري الإنسانَ من الأسف والكراهة لما فَعَلَه بعد ما فَعَلَه؛ فالحياءُ يسبق الفعلَ السلبيَّ فيجعل صاحبَه يجتنبه، والندمُ يلحق الفعلَ السلبيّ بعد ما يكون صاحبُه قد فَعَلَه؛ ولكنهما محمودا النتائج، مرغوب فيهما لدى كل إنسان سوي السيرة، طيب السريرة، ويحبهما كلُّ إنسان ما بقيت فيه ذرة من الإنسانية.

     وكيف لايكون الحياء وما في معناه بهذه الدرجة من العظمة وقد أعلى قدره ورفع مكانته النبي الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم - وهو أفصح العرب أجمعين وأعرف الخلق أجمع أكتع أبصع بالكلمات ومعانيها ودلالاتها وانعكاساتها - حيث قال فيما رواه الشيخان: البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما: «فإن الحياء من الإيمان» (صحيح البخاري، الباب 16، رقم الحديث:24؛ صحيح مسلم، الباب 12، رقم الحديث:59) وفي هذا الباب روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياءُ شعبة من الإيمان» (رقم الحديث:57).

     فالحَيِيُّ يستكمل إيمانَه بما يتمتّع به من هذه الصفة الغالية ودورها في تهذيب الإنسان وتخريجه على ما يجعله مرضيًّا لدى الخلق وربّ الخلق، وفاقدُها يفقد من عناصر استكمال الإيمان قدر فقده لها.

     والحياء والندم خصلتان متصلتان أشدَّ الاتصال بالحسَّاسيَّة والشعور المفرط بما يحْسُنُ ويقبح من الأمــور، فالمُسْتَـحْـيِي والنــادم من الإنسان بالطبع يكون حسَّاساً نحو ما يعروه من أمور الحياة، فيزنها زِنَـةَ الصيرفي للذهب والفضة، فيُقَدِّرها تقديرًا دقيقًا، ويصدر في كل خطوة من خطواته في الحياة عن هذا التقدير؛ فلا يخطئ ولايُقَصِّر، ولا يخون ولايغش، ولا يماطل ولايخادع، ولا يقع فريسةً لطمع، ولاضحيّةً لإغراء. وإذا صدر منه أيٌّ من هذه السلبيات، بادر إلى الندم والاعتذار إلى كل من يكون قد تَضَرَّرَ منه قليلاً أو كثيرًا، فيزداد ثقة لدى المجتمع، ويرتفع قيمةً في ميزان الحسنات لدى ربّه الشكور، فيجني حسنتي الدنيا والآخرة.

     الحياء يُجَنِّب الإنسانَ ارتيادَ مظانّ السوء ومواضع التهم والمطامع التي لاتُحمد عقباها، لأنها تُؤَدِّي إلى العار والإثم، اللذين يتجنّبهما كلُّ إنسان مخلوق على المحامد وخلال المجد والمروءة، لم تُغَيِّر شيمتَه حوادثُ الدهر وكرُّ الغداة ومرُّ العشي واشتدادُ العسرة الذي يُكَدِّر أخلاقَ كلِّ فتى مَحْض، يُعْرِض عن مطاعم تُعْرَض له، رغم شدة الجوع وانطواء بطنه؛ لأنها دَنِسَة مُؤَدِّية إلى ذهاب ماء الوجه وضياع العرض.

     والطمعُ في الأطعمة والأكلات اللذيذة الشهيّة ولاسيّما وقتَ اشتداد الجوع، الإعراضُ عنه وضبطُ النفس لديه شديدٌ على المرء لحدٍّ لايوصف، مهما كان كريماً ماجدًا حرًّا مطبوعاً على المروءة؛ ولكنه مُطَالَبٌ بالاحتراز منها حتى يبقى على مستواه من المجد والمروءة والكرم؛ بل إن اجتنابه إياها في هذه الحالة المُزْعِجَة المضطرة، هو الذي يُسَجَّل به أنه ذوالمجد المُؤَثَّل والكرم الأصيل والمروءة العريقة.

     قال عنترة ديوانه، ص:119 :

وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَىٰ وأَظَلُّهُ

حَتَّىٰ أَنَالَ بِـهِ كَرِيمَ المَأْكَلِ

و(أَظَلُّهُ) أي: أَظَلُّ عليه

     وقال شاعر عربي كريم:

وإِنِّي لَعَفٌّ عَـنْ مَطَاعِمَ جَمَّةٍ

إِذَا زَيَّنَ الفَحْشَاءَ لِلنَّفْسِ جُوعُهَا

     وما أصعبَ على النفس الاحترازَ من الأشياء المطموع المرغوب فيها لديها لدى النفس ولكن الاحتراز يسهل عليها إذا كانت كريمة أصيلة أبيّة. قال الشاعر الحماسي نافع بن سعد الطائي:

أَلَمْ تَعْلَمِي أَنِّي إِذَا النَّفْسُ أَشْرَفَتْ

عَلَىٰ طَمَعٍ لَـمْ أَنْسَ أَنْ أَتَكَرَّمَـا

     ولايُلاَم الإنسان على شيء بمثل ما يُلاَم على الطمع في المطاعم والمشارب التي يرغب فيها في غير موضعها اللائق، أو دونما استحقاق لها، مثلاً: يرتادها دونما دعوة مُوَجَّهة إليه لارتيادها. وقد كان أستاذنا المربي معلم اللغة العربية العبـقـري ومُدَرِّس شؤون الحيـاة الفقيـد النظـير فضيلة الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانوي (المتوفى 1415هـ/ 1995م) كثيرًا ما يقول خلال محاضراته الدراسيّة لطلابه: «إذا كان لابدّ لكم من إساءة سمعتكم، فلا تُسِيئُنَّها بالطمع في الأطعمة؛ ولكن لكم أن تُسِيئوها بالطمع في أغراض في الحياة لاتُعَدّ».

     لحكمة يعلمها الله تعالى وأفعـالُه تعالى كلُّها حكيمة عُجِنَت طينةُ كاتب هذه السطور أيضاً على الخجل والحياء الحياء والخجل شيء واحد؛ حيث يعتريان الإنسانَ قبل الفعل؛ ولكن الخجل يشوبه نوع من التحير والعيّ والعجز والارتباك والضجر، والحياء ربما ليس فيه شيء من هذا وقد كانت له في ذلك مواقف مُحْرِجَة للغاية كثيرًا ما أثَّرت على طبيعته ولاسيّما على قلبه تأثيرًا سلبيًّا جدًّا ومَسَّ ضميره في أعماقه. ولايعنيه الآن إحصاؤها تجنيباً للقارئ المللَ والسآمةَ؛ ولكنه سيذكر منها واحداً أو اثنين، مما ترك عليه أثراً بالغ المدى:

     * في بداية مشواره التدريسي كان أستاذًا للغة العربية وآدابها (في الفترة ما بين 1972-1982م) في إحدى المدارس الكبرى، التي كان أمينها العام داعية ومفكرًا إسلاميًّا يندر نظيره اليوم. وكانت جرت العادة في المدرسة أن الأساتذة المحبين له يجتمعون به على المائدة في الغداء والعشاء بوجباتهم التي كانوا ينالونها من مطبخ المدرسة أو التي كانت تُعَدّ في مساكنهم العائلية المدرسيّة. وكان كاتب السطور أحدَ هؤلاء الأساتذة الذين كانت وجباتهم الغدائية والعشائية مما يُطْبَخ في المطبخ المدرسي، والذين كانوا يحضرون بها مائدةَ المفكر الداعية بانتظام طَوَالَ مكثه بمضيف المدرسة الذي كان ينزل به من حين لآخر. في إحدى الظهائر بعد صلاة الظهر مباشرةً تَوَجَّه بوجبته الغدائية إلى المضيف إذ ألفى الداعيةَ المفكر يتمشى متكئاً على عُكَّازَته وحوله جمع من هؤلاء الأساتذة وغيرهم متوجهاً إلى الجهة التي كان هو قادماً منها؛ حيث كانت تقع غرفته. وصَحِبَ المفكر الداعيةَ قليلاً منضمًّا إلى الجمع ظنًّا منه أنه ربّما يقصد مسكنَ بعض الأساتذة أو المُوظَّفِين الذين يكون قد علم بأنه مريض، فأراد أن يعوده، إذ وصل إلى مسكن أستاذ وهو ينتظره بالباب حاملاً لإبريق لغسل يديه وأيدي من معه. وهنا علم كاتب السطور أن المفكر الداعية ومن معه من الأساتذة وغيرهم مدعوون من قبله صاحب المسكن إلى مأدبة الغداء. وما إن علم - كاتب السطور - بالموقف حتى اصفرّ وجهه من الندم؛ إذ خُيِّلَ له أن الرجل قد يظنّ أن هذا طَمَّاع أكول تسرَّب ضمن الجمع إلى بيته حتى إذا ما يقع نظره عليه فسيدعوه إلى مائدته. إن الكاتب يعلم باليقين أنه ما مُنِيَ في حياته بمثل هذا الموقف الحَرِج المُحْرِج، وقد لَفَّه انطباعٌ شديدٌ نابعٌ من شدة الندم حتى تمنى أن تنشقّ الأرض فيتوارى فيها، وبقي أياماً كلما يذكر الموقف يندم ويتأسّف ويلوم نفسه؛ ولكنه حمد الله تعالى وأثنى عليه أن صاحب المسكن الذي كان قد دعا الداعيةَ المفكر ومحبيه إلى مأدبته، لم يقع نظره عليه؛ لأنه كان جدَّ مشغول بأمر الاستقبال وغسل أيدي الداخلين إليه من الضيوف. وكان يؤلم الكاتبَ عندها ما يتذكره من قول أستاذه العظيم فضيلة الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانوي رحمه الله تعالى: «من أسوإ السوءات أن تسوأ سمعةُ المرء من أجل طمعه في الأطعمة». ولا يزال كلما يذكر الموقف يتحرج ويتكدر صفو حياته للحظات مديدة.

     * في أوائل أكتوبر 2010م (أواخر شوال 1431هـ) أرسل إلى كاتب السطور رجلٌ من مدينة «مراد آباد» بولاية «أترابراديش» بالهند روبيات بالحوالة البريدية يشتري منه نسخةً من كتابه الشهير بالأردية «پس مرگ زنده» (لايزالون أحياء بعد موتهم) ولكنه بعد ما تسلّم الروبيات فقد عاجلاً القسيمة (Coupon) المكتوبَ فيها اسمُ الرجل وعنوانُه، وبحث عن القسيمة في كل مكان؛ ولكنه لم يجدها، وبحث عن اسم الرجل وعنوانه عن طريق معارف له في المدينة؛ ولكنهم اعتذروا عن الدلالة على اسمه أو عنوانه، فاصطلحت عليه جميعُ معاني الندم؛ حيث تأكّد أن الرجل سيتّهمه بالخيانة وأكل أمواله بالباطل، ويسيء الظن به وبالجماعة التي ينتمي إليها: جماعة العلماء ورجال الدين، وظلّ يتقلب على مثل الجمر أو على أحرّ منه، يفكر في كل حيلة يتوصّل بها إلى الرجل أو اسمه وعنوانه. وكان على ذلك إذ فاجأته رسالة منه يوم 15/11/2010م (8/ذوالحجة 1431هـ) كتبها إليه يوم 12/11/2010م (4/ذوالحجة 1431هـ) عن طريق البريد، يشكو فيها أنه سبق أن أرسل إليه المبلغَ المطلوبَ لنسخة من الكتاب المذكور؛ ولكنه بعد هذه المدة الطويلة لم يتسلّم الكتاب. واكتفى الرجل بهذا القدر من الشكوى، وسجَّل في الرسالة اسمَه وعنوانَه، وطلب منه أن يبادر إلى شحن الكتاب إليه؛ لأنّه في حنين أيّ حنين إليه منذ أن سمع على ألسنة قراء له ثناءً عليه بالغاً. فالتقط الكاتب أنفاسه وتنفس الصعداء ودعا للرجل على سماحة نفسه وكرم طبعه، وحمد الله تعالى على أنه خَلَّصه من التأذي الذي ظلّ يعيشه منذ نحو شهر.

     والكاتب طُبِعَ على الحياء والخجل؛ إذ عاش صباه أيضاً خجولاً ، وله في ذلك مواقف كثيرة لايريد الإطالة على القارئ بذكرها؛ لأن مكانها اللائق هو ترجمة حياته إذا تمكّن من كتابتها وأتاحت له الأشغال المزدحمة والأمراض المصطلحة عليه الفرصةَ لذلك. والله تعالى إذا أراد شيئًا هَيَّأ أسبابه.

     ولكنه يرى قلمه مضطرًّا لأن يُسَجِّل أن صفته هذه قد جعلته يجتنب كثيراً من الأخطاء والتقصيرات، كما جعلته يحجم أحياناً كثيرة عن طلب حقوقه المُسْتَحَقَّه، فضلاً عن أن يُصِرَّ على حقّ له أو على مطلب من المطالب، بالعكس مما يراه يصنعه أبناءُ عصره في الأغلب؛ حيث يطالبون بما لايستحقونه، ويجدونه في سهولة، لأنهم فُطِرُوا على اللاحياء واللاخجل، ولايعرفون معنىً للندم، ويَتَفَنَّنون في إعمال الإلحاح والإصرار والمطالبة المُتَّصِلة المُكَثَّفَة، مهما انزعج وضجر وتبرم من يطالبونه بتحقيق مطالبهم.

     أما قال لك الكاتب في بداية هذه السطور: إن الناس أنواع لا تُحْصَىٰ؟.

أبو أسامة نور

 

(تحريرًا في الساعة 9 من الليلة المتخللة بين الثلاثاء والأربعاء: 29/صفر غرّة ربيغ الأوّل 1433هـ الموافق 24-25/يناير 2012م)

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ربيع الثاني 1433 هـ = مارس 2012م ، العدد : 4 ، السنة : 36